الاثنين، ١٩ مارس ٢٠٠٧

بائسة أيامنا يا صديقي

بائسة أيامنا يا صديقي !



حبةُ فول مشقوقة نصفين ، جديرا بالملاحظة ، جديرا بإزعاجِ أعيننا بإلقاء ضوءٍ عليهما – من زاويتي ضوءيهما هم لا ضوءنا -

++++

"دقائقٌ ، يا أمي وأنتهي "
أماطلها كعادتي حين أتسمرُ أمام شاشةِ حاسبي متنقلةً بين نوافذِ الشبكة وبرامجِ مشروعاتي اللامنتهية في محاولة يائسة مني لكسبِ القليل من الوقتِ الإضافي .
" حنان ، سأخرجُ الآن كي أزور خالتكِ أم أحمد لأهنئها بنجاح ابنها،وعليكِ إعداد الغداء في غيابي "
أومأ برأسي وعينايّ مازالتا معلقتين بالشاشة فتزجرني الوالدة قائلةً " وإن سمحتِ اغلقي الجهاز حالًا ! "
أضغطُ على زر إطفاء الشاشة وابتسم بشيءٍ من التكلفِ لها و أقوم لأبدأ بما أمرتني به و تغادر هي.
وما هي إلا دقائق بل لحظات وكان الأرز على النار لينضج والباقي لحقه وعدتُ لأتابع شاشتي الحبيبة .
كان غريبًا بل جد غريب أن تطالع شاشة الصفحة لتجدها موقع متخصص بالأخبار فالعادة أني لم أكن يومًا ممن تجذبهم رائحة السياسة وكما أني لستُ من هؤلاء منزوعي القلوب ممن يحدقون طويلًا بالجثث والدماء.
لكنه اليوم شيء آخر، شيءٌ أفاض بي رعشات متواطئةً مع سطور الصفحة وانتابني شعور لم أجربه قط ، يحمل من القسوة قدرًا كذاك الذي تحمله انتفاضة الرعد مخترقة سَكينة غصن ويحمل من المفاجئة كمثل ذاك الذي تباغت به القطة عصفورًا أحمق .
أشعر كأني مصابة بسطحية من الدرجة الثالثة – ربما من الثالثة إلا ربع إذا حسبنا عمق معارفي التعليمية ! – لكني لم أردْ أن أكون سطحية يومًا ،هم أرادوني كذلك فكنتْ !
خبر هامشي بركنِ الصفحة – بالطبعِ بالمقارنة مع خبر آخر اتصالات الرئيس أطال الله عمره – فدائي يفجر نفسه بدورية أمريكية بالرمادي الليلة الماضية ، ضغطت عليه و جاءت تفاصيل سخيفة لم تعطني أكثر مما أعطى عنوان الخبر لكن رابط لصفحة أخرى كان نافذتي لصفحة تالية كانت و يا لدهشتي صفحتين وُجدتا بالحدث ، كلاهما من قالب المذكرات اليومية الشخصية لكن الغريب أن إحدهما كانت لمنفذ العملية و الأخرى لأحد جنود الدورية الأمريكية وبدأتُ بالقراءة.

تَرقبُ منتصف ليلة :

ثقيلة إغفاءة الوَقْتِ حِينَ ترتقبُ أمرًا لكنه يُدهشك أيضًا حِينَ يَمرُ كخيطِ انفجار شفقٍ شَتَوي لَمْا ترتجيه لو يَحل ضيفًا لديكَ
وها أنا أنتظرُ لعله يمضي فأنالُ في خلسةٍ منه بعض المجد فأهديه حين ارتحلُ قومي بعدي في وصيةٍ ممزوجة برائحة مسكٍ وفي شريطٍ قصير يحكي القصة بلا كذب في زمن يعد فيه الشهود العدل على أصابع اليد الواحدة.
انتهى الإخوان في مساء أمس من إعداد حزامي الناسف وها هو أمامي أتأمله فكأنه يبدو لي كطريقي الممهد نحو الجنة ، آه نعم إنها الجنة وويحي أن تصرفني الدنيا عنها .
ما زلتُ أذكر حديثَ القائد والأخ المجاهد أبو أنس حين هتف إلى جانبي مرة بإحدى معاركنا الصغيرة حيث استشهدْ "بحواصل طير خضر بالجنة ، بالجنة ، الجنة " ..
كما ألجمني هذا الثبات حين ارتعبت أنا ، كم أدهشني هذا الإيمان حين اهتزت روحي ، كم أثارتني هذه الشجاعة حين جبنت أنا ، لكن اليوم الفرصة لي كي ألحقه وأواكب رحله .
آه الذكريات ترتع اليوم بأرض عقلي و روحي حتى لكأني أجدني بمسرح حياتي يتابع الممثلون على خشبته أداء تفاصيل مسرحية حياتي بكل تفاصيلها الصغيرة .
أذكرُ كيف بدا وجه أخي الذي بات عاجزًا عن تنفس هواءنا وكأنه يصيحُ فيَّ أن الدم لا يرتاح إلا بدم ، أي مهند لم أنسى وها أنا أخضبهم بدمهم كي يرتاح دمك الذي مزج بترابٍ من عار .
أذكرُ أختي حين أتتني تتساقطُ كورقةٍ ذابلةٍ في ربيعٍ نابض ، أتتُ تصيحُ ذات صيحة مهند بكل تفاصيلها وتردداتها أيضًا لم أفهم بالبداية لم تكن تمتماتها مفهومة لكن علمت بعدها أن ما بصدرها لم تكن لتحتمله الكلمات ، لم تكن لتحتمله أبدًا ، فاطمة الصغيرة جرعوكِ سمًا وألمًا كنتِ أصغر من أن تحتمليه ، أصغر بكثير ولأجلكِ سأشربهم بكأسٍ أخرى لكن أكثر ألمًا يا أختي .
هم أرادوها حربًا و ها نحن نحيلها جهنم !..

استراحة منتصف ليلة :
لم أدر يومًا أن تنفس الصعداء بعد كتم نفسي سيتطلب مني يومًا كاملًا بل لم أكن أدري أنه ليبدو بتلك المشقة و لم أكن أعلم أن ليصبح –تنفس الصعداء- أمرًا بتلك اللذة وتلك النشوة.
أن تكونَ جنديًا بالعراق فأنت تدري ما أقول وأن تكون منطقتك الرمادي أو الفلوجة أو بغداد فأنت تعلم بعمق ما أعني .
الأيام تمر ببطء يبدو لي كخنجر بهلواني بالسيرك أقف أمامه وهو يقذف بخناجره حولي في استعراض سخيف و أنا بالمنتصف متسمرًا أدعو الله ألا تصيبني إحدى خناجره ففترة تجنيدي الإلزامية ما زال أمامها الكثير لتنتهي و الأوضاع هنا لا تبشر بالخير .
الناس هنا لم تكن كما أذاعوا لنا عن أنهم يرغبون بوجودنا كحماية واستقرار و تحرير لهم ! ، الكل هنا ناقم علينا ، ينظرون لنا كطفيليات فوق أجسادهم تتغذى عليهم وتصيبهم بالوباء .
الحكومة كذبت علينا ، حتى اليوم لا يملك قوادي جوابًا مقنعًا لسؤالي الدائم ما مهمتنا هنا ؟ و متى تنتهي ؟
الكثير من الزملاء الجنود ينتهكون القوانين كحيوانات تتصنع الدعة ارتقبت أن يخرجوها من الحبس لتنهش أول من قابلها .
مازال يلح على السؤال هل كان ما فعلناه هو مباديء الولايات المتحدة الديموقراطية التحررية ، لا يمكن أن يسموها حرية ما فعلوه هو أتوا ركن حبس الأسود بحدائق الحيوان جميعًا و أطلقوها بالمدن المسالمة لمجرد الشك أن فأر يسكن إحدى الأبنية وبحجة تشبه القطط تأكل الفئران فأطلقوا قطط وراء الفئران لتتخلصوا منها وبفرضية تشبه بما أن الأسود تتبع فصيلة القطط لكنها أكبر و أشرس فإطلاقها سيكون أقوى تأثيرًا !
أدري أني سأخرج من هذه التجربة – إن خرجت بالأصل – مثقلًا بقطوف الندم و الانكسار أو ربما فقدان بشريتي أو حتى إيصالي لجنون ما لكن يبدو أني مطالب شئت أم أبيت أن أبقى فلا حيلة بذاك العقل الخرب كي أعيل عائلتي الصغيرة .
اليوم قتل زميل لي ومن حوالي أسبوع قتلتُ ثلاث عراقيين بدمٍ بارد ، شيءٌ مني بدأتُ أفقده لأكتسب شيئًا لا يخصني ، شيءٌ جد حقير وكل يوم يرحل عداد الضحايا يرتفع ويرتفع عدد المفقودات بداخلنا ويرتفع عدد الطفيليات المكتسبة لداخلنا.
كم هو عالم مجنون هو عالمنا وكم هي ضيقة حدود عقولنا.

عجيب بل جد عجيب حقًا كيف تبدو الصور الكاملة غريبة !
أسمع صوت صرير الباب ينفتح بينما تصيحُ أمي " حنان رائحة شيء يحترق!"
أغلق الشاشة سريعًا و أهرول تجاه المطبخ لأنقذ ما تبقى .

6 تعليقات:

غير معرف يقول...

السلام عليكم

أهنئكِ في البداية على افتتاح هذه الساحة العريقة التي أرجو أن تكون مسرحاً لعرضِ الكثير من الدرر واللآلئ الثمينة والمصقولة كهذه ..

هذه القصة القصيرة السياسية تحوي من المعاني الكثير .. والتي إن توفرّ فهمها ووعيها لدى كلّ فردٍ من أفرادِ الأمةِ لكان الوضع مختلفاً تمام الاختلاف ..

أبدعتِ في وصفِ الأحداث والسرد .. وأكادُ أجزمُ أنك قد عبّرتِ عن حالِ جنودٍ لا يستطيعون صياغة ما يجري حولهم لجنونهم وريبتهم مما يرون ويقابلون يومياً ..

أما ما يقابلهم .. وهو الشطر الثاني - أو الأول - من حبةِ الفول التي سُلط عليها ضوءٌ خافت يتمثل بوسائل إعلامٍ غربية بالتبعية " أبا عن جد " !

فإنهم - وبرغم ذلك الضوء - كنورِ فجرٍ حلّ بعد ظلامٍ دامس فتمثلت فيهم بداية " الفرج " بعد " الشدة " .

أعجبتني الرمزية في القصة كما فهمتها وحللتها في الغداء واحتراقه والعزوف عن مطالعة الأخبار والسياسة ومناظر الدم .. والتفاوت الرائع بين كلمتي " ترقب " و " استراحة " .

بعد ما أسلفت لا أستطيع إلا أن أصف ما كتب بالرائع وإن كان التعبير لا يوفي حقها لما حوت من إبداع .

Khaled Ibraheem يقول...

بداية موفقة والحمد لله .. نرجو الاستمرار إن كان للفول بقية !!
(هذا ما كان ليحدث إن ضغطت الرقم 1) :D

غير معرف يقول...

أهلًا جهاد
قصّة جميلة وبداية رائعة :)
في انتظار المزيد منكِ بإذن الله ..

هاجر :)

jihad يقول...

مرحبًا منصور : )

يبدو أني من سأهنأ نفسي لمرورك وتعليقك المثمر حقًا ..

قراءتك للقصة بدت لي جد قريبة جدًا والجميل أكثر أنك بشكل ما فهمت بعض رموزها التي قد تكون من لب الفكرة أو الهدف منها ..

أشكرك لأنك هنا : )

أراك على خير

فيض تحية

jihad يقول...

مرحبًا خالد : )

بلا الرقم واحد أخبرني كيف أنتقل للمستوى الأعلى :)

أشكرك و أعدك بالمحاولة مرارًا ( وراك لحد ما تزهق :P )

أراك على خير

فيض تحية

jihad يقول...

مرحبًا هاجر العزيزة : )

مُمتنة يا جميلة ومنكم نستفيد ..

يشرفني إطلالتكِ هنا

فيضُ تحية