الثلاثاء، ١ مايو ٢٠٠٧

مَيْدانٌ مُفْتَرضْ

مَيْدانٌ مُفْتَرضْ ..

" يا عسكري يا بو بندقية ، يا زينة الأمة العربية " هكذا أهمسُ بأذن والدي حين أجري نحوه وهو يزيحُ حقيبته الكبيرة ليفسحَ ليّ المكان في صدره الحنون ويخلعُ قبعة الجيش ليلبسني إياها فتتعالى ضحكاتنا ويتوجني بقبلة على جبيني ثم ينظر في عيناي ليقول " اشتقت إليكِ يا صغيرة ".
تقبلُ أمي وعيناها تلمعان ببريقٍ من الحنين يكشفُ شوقها فيحتضنها الوالد لتبكي فيبادرها بمرحه المعتاد " يا ستي اطمئني لا ناقص رجل و لا يد " فتبتسم له في حنان وما تلبث لحظة حتى تمسك ذراعه بقوة و عيناها تحتوي خوفًا غريب الملمح لتقول له في شجن " متى ستنتهي تلك الحرب لننعم ببقاءك هنا بيننا ؟! ، أنا ورنا نحتاجك ، لا أريد لرنا أن تمنح لقب اليتيمة يا عمرو !! " .

" ماما ، حسام أخذ كرتي ! " هكذا تخرجني سلمى ابنتي الصغيرة من طيف الذكريات الجميل الذي تبادر بخاطري في اندفاع عذب يملؤني بالدفء والشوق لوالداي رحمة الله عليهم ، ابتسم لها وأمسكُ بيدها وأضغط عليها بقوة وأشير لحسام أن يعطيها كرتها فيرميها لها بقوة وغضب فأدنو منه أقبل جبينه وأخرج من جيبي علكة لينسى أمر الكرة .
يندفع الاثنان أمامي في مرح وصخب طفولي علم بيتنا الفسيح كيف يجعل من أقتم لون بأركانه الكثيرة يشيع كلون صاخب مليئًا بالفرح ، مليئًا باليقظة ، مترقبًا في قلق ! .
يدق جرس الباب بذلك الرنين المنظم ذلك الرنين لا يشبه رنين آخر ، ثلاث رنات قصيرة ثم رنة طويلة ، هكذا كان يعلن دومًا حضوره ، يندفع حسام و سلمى يتسابقون لنيل شرف فتح الباب لصاحب الرنين الخاص و يتصايحون في جريهم " بابا ، بابا " ، وكالعادة يصل حسام أولًا و يفتح الباب ليحمله زوجي أسامة ويداعبه في حبٍ ثم تقبل سلمى باكيةً شاكية له حسام الذي سبقها و أخذ كرتها فيحملهما معًا واضعًا كل منهم على ذراع ثم يقول لحسام في مرح و استبشار " لماذا أغضبت أختك ؟ ، ألم أقل لك في غيابي أنت رجل البيت وعليك حماية أختك و أمك " فيرد حسام مبتسمًا " حسنًا يا بابا " فيتجه أسامة لسلمى و يبتسم لها في رفق و يقبلها و يقول لها " ذلك يكفي يا أميرتي ؟ " فترد أن لا وهي مقوسة حاجبيها فينزلهما مع على ذراعاه و يمثل أنه يضرب حسام ضربًا خفيفًا فتتهلل سلمى حين يدعي حسام أن يبكي في خبث فيحضنهما أسامة و هو يقول " أدام الله عليكما البهجة وجعلكما سندًا لبعضكما دومًا ".
كنتُ حين وصل أسامة أقف أراقبهم من بعيد منشرحة الصدر فهتفت و أنا أقبل نحوهم " وأطال الله عمرك كي تقر عينك بهم " فيلتفت لي ويبتسم وعيناه تلمعان في حبٍ ليرد عليّ و هو ينتصبُ " أنا و أنتِ ، آمين يا رب " ، ثم أقول له " هيا ، اذهب و أبدل ملابسك في حين أعد العشاء ".
انتهينا من العشاء و شرعت أعد حسام و سلمى للنوم لكن حسام كالعادة كان عنيدًا فأخذ يتقافز بأرجاء البيت وجعلني ألهث وراءه في مطاردة بدا فيها هو الغالب إلى أن اقترب من ذاك الركن الذي يجمع ذكرياتنا جميعًا في صور تذكارية فأمسكت به وألبسته ملابس نومه لتندفع أسئلة من طفلي الصغير عن الذكريات التي جمدتها هذه الصور الساكنة .
" ماما ، من هذا ؟"
" هذا عم والدك عميد العائلة ، كان طبيبًا كبيرًا في أيامه "
" وهذه أنتِ صحيح ، من معكِ ؟ "
" نعم هي أنا أيام الجامعة ، و هذه صديقتي أخت والدك "
" ماما ، ومن هذا الضابط ؟ " يبدو أن اللباس العسكري لفت انتباه حسام إلى حد بعيد.
" هذا جدك ، والدي ، أحد هؤلاء الشهداء بالحرب "
أثار بي ذلك الحديث الكثير من الشجن فجذبت ولدي و قلت له " تعال لأريك شيئًا " و أخذته لخزانة نضع فيها أشياءنا القديمة فأخرجت بدلة مغطاة بكيس من البلاستيك فأزلته لتظهر بدلة جيش كاملة ، فأخذ ولدي يمرر يده عليها ولفت انتباهه ذلك النسر بالقبعة ثم رفع نظره إليّ ليسألني من جديد " ماما ، بالمدرسة كان لدينا درس يقول أن الجيش يحمي الوطن من الأعداء ، كل من يلبس مثل هذه البدلة يحمي الوطن يا ماما ؟ "
ابتسم إليه و أومأ برأسي أن نعم فيحضنني و يقول " حين أكبر أريد أن أكون ضابط مثل جدي لأحمي الوطن "
استغرق بالنظر إليه طويلًا وأحمله في توأدة إلى سريره ثم أعود لغرفتي فأصلي العشاء و أركن للنوم إلى جانب زوجي .

صوت الهاتف يتعالى رنينه فأسرع لأرفع سماعة الهاتف و أجيب ُ
" آلو ، من معي ؟!"
" آلو ، أعطينا والدتكِ يا صغيرة "
" حاضر " أصيح " ماما ، تليفون "
تأتي أمي مسرعة لتلتقط سماعة الهاتف مني و ترد هي لألاحظ تغير بلونها و هي تقول " نعم ، فهمت " ثم تضع السماعة و يدها ترتعش وتسقط على الكرسي المجاور للهاتف و عيناها تحدقان في فزع ، أقترب منها أسألها " ماما ، ما بكِ ؟ " لا تنصت لي فأعيد الكرة فتنتبه هذه المرة لوجودي لتنظر لي بفزع أكبر ثم تجذبني إليها وتحضنني بقوة و عيناها تفيض بالدموع فوق كتفي و كلمات تخرج في غصة و ضيق متقطعة من حلقها " مات يا رنا ، مات ! "

أستيقظ فزعة من نومي و أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ، أتحسس السرير بجانبي فتصطدم يدي بيد زوجي فأستعيذ بالله من الشيطان مجددًا و أحاول أن أعاود النوم من جديد .
طرقات متتابعة بقوة و غضب تتابع على باب بيتنا ، أستيقظ و زوجي فزعين وأفتح النور ثم أهرع لأرتدي حجابي و يسرع هو ليفتح الباب لأجد حسام وسلمى قد استيقظا على وقع الطرقات و أعينهما الناعسة تصارع لتفتح أجفانها علها تعي ما يحدث .
ما أن يفتح أسامة الباب حتى يندفع إلى الداخل مجموعة من الجنود و مع ضابط ليطالبوا زوجي بارتداء ملابسه و الخروج معهم فيسألهم أن يهدأوا لأن أطفاله مستيقظين و بإمكان الأمور أن تحل وديًا ليصيح الضابط " أنت لن تعلمنا كيف ندير عملنا ! " ثم يأمر الضابط الجنود بتفتيش البيت و ضبط أجهزة الحاسب و الكتب و الشرائط ، ببساطة أن يقلبوا البيت رأسًا على عقب .
اندفع لأطفالي وأحاول أن أغلق عليهم حجرتهم ثم أتوجه للضابط استعطفه أن يترك زوجي فيقول لي تلك هي الأوامر فأسأله و أنا أصرخ " ماذا فعل زوجي لتقتادونه في أنصاف الليالي كمجرم تبحثون عنه من فترة " فيبتسم لي " إن لم تكوني تعلمي فممارسة أفعال معارضة النظام هنا مدونة كجرائم درجة أولى " فأصيح بهستريا " فقط لأنه أحد هؤلاء الذين يرغبون بغد أفضل ، بحياة أكثر حرية ، بمواطنين بلا وصاية ، بوطن يضم أحلامنا جميعًا " يقترب أسامة مني و يسألني أن أهدأ و يقول لي " تلك ضريبة مستقبل أفضل لحسام و رنا " ثم يدنو مني و يقبل جبيني ثم يهمس بأذني " انتبهي لنفسك و لحسام و سلمى " أشرعُ بالبكاء و هم يقتادونه بعيدًا .

مازلت الطفلة تحدق بالباب تنتظر أن يدخل بلباسه المميز و قبعته ذات النسر الشامخ لتغني له
" يا عسكري يابو بندقية ، يا زينة الأمة العربية "
لكنه لا يدخل أبدًا من ذاك الباب.

يخرج حسام و سلمى ليقول لي حسام في براءة " ماما ، هؤلاء يرتدون ذات بدلة جدي ، بابا كان عدو للوطن يا ماما ؟!! "